سورةُ الفاتحة
اشتمالهُا على شفاءِ القلوبِ و شفاءِ الأبدانِ
قال الله تعالى : ﴿بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ (1) ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ (2) ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ (3) مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ و إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَ لاَ ٱلضَّآلينَ (7) ﴾
خلقَ اللهُ الإنسان ضعيفاً لتقوى صلته بالقويّ المتين سبحانه ، فيطلبُه عند الضّعف ، و يستعين به عند العجز ، و يستبينُ به الطّريقَ عند التّيهِ ، بل يذكره في رخائه كما يذكره في شدّته و حاجته ، وكان من ضعف الإنسان انزعاجُ قلبه واضطرابُه و وحشتُه ، فجعل الله في ذكره سبحانه الطُّمأنينة و السّكينة و راحة النّفس ، كما قال : ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ ﴾ ( الرّعد : 28 ) ، والقرآن من ذكر الله ، قال الله عزّ و جلّ : ﴿ وَ هَـٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ﴾ ( الأنبياء : 50 ) ، بل هو أصل الذّكر ، ولذلك ذكره الله معرّفا بالألف و اللام في قوله : ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ ( الحجر : 9 ) .
و لمّا كان ذكر الله شفاءً للقلوب ، ولمّا كان القرآن أصلَ الذّكر و أفضلَه ، جعل الله عزّ وجلّ القرآن كلّه شفاءً للمؤمنين ، فقال : ﴿ وَ نُنَزّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَ رَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً ﴾ ( الإسراء 82 ) ( مِن ) هنا للجنس و ليست للتّبعيض ، قاله ابن الجوزي في ” منتخب قرّة العيون النّواظر في الوجوه والنّظائر ” عند كلامه على كلمة ( مِن ) ، و قال ابن القيّم في ” زاد المعاد ” ( 4/177 ): ” و من المعلوم أنّ بعض الكلام له خوّاص و منافع مجرّبة ، فما الظنّ بكلام ربّ العالمين الذي فضلُه على كلّ كلام كفضل الله على خلقه ، الذي هو الشفاء التّامُّ و العصمة النّافعة و النّور الهادي و الرّحمةُ العامَّة ، الذي لو أُنزل على جبل لتصدّع من عظمته و جلالته ، قال تعالى : ﴿ وَنُنَزلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَ رَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً ﴾ ( الإسراء : 82 ) ، و ( مِن ) ههنا لبيان الجنس لا للتّبعيض ، هذا أصحّ القولين ” ؛ لأنّ القرآن كلَّه شفاءٌ ، بدليل قول الله عزّ وجلّ : ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ ﴾ ( فصلت : 44 ) ، و قوله :﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ من رَّبكُمْ وَ شِفَآءٌ لمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَ هُدًى وَرَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِينَ ﴾ ( يونس : 57 ) .
أنواع الأمراض :
قال ابن القيّم في ” زاد المعاد ” ( 4/5-7 ) : ” المرض نوعان : مرض القلوب ، ومرض الأبدان ، وهما مذكوران في القرآن .
و مرض القلوب نوعان : مرض شبهة و شكّ ، ومرض شهوة وغيّ ، وكلاهما في القرآن ، قال تعالى في مرض الشبهة :﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً ﴾ ( البقرة : 10 ) ، وقال تعالى :﴿ وَ لِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَ ٱلْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً ﴾ ( المدّثّر : 31 ) ، و قال تعالى في حقّ من دُعي إلى تحكيم القرآن والسّنّة فأبى و أعرض :﴿ وَإِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ منْهُمْ مُّعْرِضُونَ (48) وَ إِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُوۤاْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ٱرْتَابُوۤاْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ ( النور : 48 - 50 ) ، فهذا مرض الشّبهات و الشّكوك .
و أمّا مرضُ الشهوات ، فقال تعالى : ﴿ يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ منَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ ( الأحزاب : 32 ) …
فأمّا طبُّ القلوب فمسلَّمٌ إلى الرّسل صلوات الله وسلامه عليهم ، ولا سبيل إلى حصوله إلاّ من جهتهم و على أيديهم ؛ فإنّ صلاحَ القلوب أن تكون عارفةً بربّها و فاطرها ، وبأسمائه و صفاته و أفعاله و أحكامه ، و أن تكون مُؤْثِرَةً لمرضاته و محابِّه ، متجنّبة لمناهيه و مساخطه ، و لا صحّة لها و لا حياة البتَّةَ إلاّ بذلك ، و لا سبيل إلى تلقّيه إلاّ من جهة الرّسل ، و ما يُظنُّ من حصول صحّة القلب بدون اتّباعهم فغلطٌ ممّن يظنُّ ذلك ، و إنّما ذلك حياةُ نفسه البهيمية الشّهوانيّة و صحّتُها و قوّتها ، و حياة قلبه و صحّته و قوّته عن ذلك بمعزلٍ ، و من لم يميّز بين هذا و هذا فليَبْكِ على حياة قلبه ؛ فإنّه من الأموات ، وعلى نوره ؛ فإنّه منغمس في بحار الظّلمات ” .
شفاءُ سورةِ الفاتحة للقلوب :
بعد أن عرفنا أنّ الله عزّ وجلّ جعل الشّفاء في كتابه الكريم كلّه ، فليُعلم أنّ الله عزّ وجلّ خصّ سورًا و آياتٍ من كتابه بزيادةٍ في خاصّيّة الشّفاء و التأثير ، منها سورة الفاتحة ، فقد ذكر الله فيها المنعمَ عليهم أصحابَ الصراط المستقيم الذين عرفوا الحقّ وعملوا به ، و قابلهم بمن انحرف عن ذلك ، وهم أمّتان : اليهودُ الذين عرفوا الحقّ و تركوا العمل به بسبب مرض الشهوات خاصّةً ،و إن كانوا لا يسلَمون من الشّبهات، و النّصارى الذين ضلّوا عن معرفة الحقّ بسبب الشّبهات خاصّةً ، و إن كانوا لا يسلَمون من الشّهوات ، قال ابن القيّم رحمه الله في ” مدارج السّالكين ” ( 1/52-55 ) : ” فأمّا اشتمالها على شفاء القلوب ، فإنّها اشتملت عليه أتمّ اشتمال ؛ فإنّ مدارَ اعتلال القلوب و أسقامها على أصلين ، فسادُ العلم ، و فسادُ القصد ، و يترتّب عليهما داءان قاتلان و هما الضّلالُ و الغضبُ ، فالضّلال نتيجة فساد العلم ، و الغضب نتيجة فساد القصد ، و هذان المرضان هما مِلاك أمراض القلوب جميعها ، فهداية الصّراط المستقيم تتضمّن الشّفاء من الضّلال ، و لذلك كان سؤالُ هذه الهداية أفرضَ دعاءٍ على كلّ عبد و أوجبَه عليه كلّ يوم و ليلة في كلّ صلاة ؛ لشدّة ضرورته و فاقته إلى الهداية المطلوبة ، و لا يقوم غير هذا السّؤال مقامَه … ” .
و قال في ” زاد المعاد ” ( 4/178 ) : ” و بالجملة فما تضمّنتهُ الفاتحة من إخلاص العبودية و الثناء على الله ، و تفويض الأمر كلّه إليه و الاستعانة به و التّوكّل عليه ، و سؤالِه مجامعَ النّعم كلّها ، وهي الهداية التي تجلب النّعمَ و تدفعُ النّقمَ ، من أعظم الأدوية الشّافية الكافية ، و قد قيل إنّ موضع الرّقية منها :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ ، و لا ريب أنّ هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدّواء ؛ فإنّ فيهما من عمومِ التّفويضِ و التوكّلِ و الالتجاءِ و الاستعانةِ و الافتقارِ و الطّلبِ ” .
ثم أجمل هذا في كلمة جامعة نافعة ، فبيّن أنّ هذه الآية اشتملت على : ” الجمع بين أعلى الغايات و هي عبادة الرّبّ وحده ، و أشرف الوسائل و هي الاستعانةُ به على عبادته … ” ، و قد فصّل رحمه الله في الموضع السّابق من كتابه ” مدارج السالكين ” فقال : ” و لا شفاء من هذا المرض إلا بدواء ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ . . . فإذا ركَّبَها الطّبيبُ اللطيف العالم بالمرض و استعملها المريض حصل بها الشّفاء التّامّ ، وما نقص من الشّفاء فهو لفوات جزء من أجزائها أو اثنين أو أكثر ، ثمّ إنَّ القلب يعرض له مرضان عظيمان إن لم يتداركهما العبدُ تراميا به إلى التّلف و لا بدّ ، و هما الرّياءُ و الكبرُ ، فدواء الرّياء ب ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ ، ودواء الكبرِ ب ﴿ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ ، وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول : ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ تدفع الرّياء ،﴿ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ تدفع الكبرياء ، فإذا عوفي من مرض الرياء ب ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ ، ومن مرض الكبرياء و العجب ب ﴿ و إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ ، ومن مرض الضّلال و الجهل ب ﴿ ٱهْدِنَا ٱلصرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ ﴾ ، عُوفي من أمراضه و أسقامه و رفَلَ في أثواب العافية و تمّت عليه النّعمة ، و كان من المنعم عليهم غير المغضوب عليهم و هم أهل فساد القصد الذين عرفوا الحقّ و عدلوا عنه ، و الضّالّين و هم أهل فساد العلم الذين جهلوا الحقّ و لم يعرفوه ، و حُقّ لسورة تشتمل على هذين الشّفائين أن يسشفى بها من كلّ مرض ، و لهذا لمَّا اشتملت على هذا الشفاء الذي هو أعظم الشفائين كان حصول الشفاء الأدنى بها أولى ، كما سنبيّنه ، فلا شيء أشفى للقلوب التي عقلت عن الله و كلامه ، و فهمت عنه فهمًا خاصّا اختصّها به من معاني هذه السورة ” .
شفاءُ سورةِ الفاتحة للأبدانِ :
جرى كثيرٌ من المتأثّرين بالتمدّن المُقلّين من مطالعة كتب السّلف على إنكار معالجة البدن بالقرآن و الأذكار المسنونة ؛ توهمًّا أنّ ذلك ضربٌ من الخرافة ، و أنّ فيه تشجيعًا على الخمول و الرّكون إلى الكهنة و أشكالهم من الانتهازيين ، و نظرًا لقلّة عنايتهم بالسنّة و جُرأتهم على الشّريعة باستعمال عقولهم في كلّ شيءٍ ظنّوا أنّ الأمراض الحسّيّة لا تُداوى إلا بالأدوية الحسّيّة ، وقد تكلّم ابن القيّم على الاستشفاء الحسّي بالفاتحة ، فذكر حكمه و دليله بما لا مردّ له فقال في ” مدارج السّالكين ” ( 1/55 ) : ” و أمّا تضمُّنها لشفاء الأبدان فنذكر منه ما جاءت به السنّة وما شهدت به قواعدُ الطّبّ و دلّت عليه التّجربة ، فأمّا ما دلّت عليه السنّة ، ففي الصّحيح (1) من حديث أبي المتوكّل النّاجي عن أبي سعيدٍ الخدريّ ” أنّ ناسًا من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم مرّوا بحيٍّ من العرب ، فلم يَقرُوهم و لم يُضيّفوهم ، فلُدغ سيّد الحيّ ، فأتوهم فقالوا : هل عندكم من رقيةٍ أو هل فيكم من راقٍ ؟ فقالوا : نعم ! و لكنّكم لم تَقرُونا ، فلا نفعلُ حتى تجعلوا لنا جُعلا ، فجعلوا لهم على ذلك قطيعًا من الغنم ، فجعل رجلٌ منّا يقرأ عليه بفاتحة الكتاب ، فقام كأن لم يكن به قَلَبةٌ (2) ، فقلنا : لا تعجلوا حتى نأتيَ النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم ، فأتيناه فذكرنا له ذلك ، فقال : ما يُدريك أنّها رُقيةٌ ؟ ! كلوا و اضربوا لي معكم بسهمٍ ” ، فقد تضمّن هذا الحديث حصول شفاء هذا اللّديغ بقراءة الفاتحة عليه ، فأغنَته عن الدّواء ، وربّما بلغت من شفائه ما لم يبلغه الدّواء ، هذا مع كون المحلّ غيرَ قابلٍ ؛ إمّا لكون هؤلاء الحيّ غير مسلمين أو أهل بخلٍ و لؤمٍ ، فكيف إذا كان المحلُّ قابلا ؟! ” .
فهذا صريحٌ في التّداوي بالقرآن لداء حسّيٍّ بحتٍ ، ألا و هو لدغة العقرب ، كما أن التّجارب شهدت بصدقه ، قال ابن القيّم أيضا ( 1/ 57 - 58 ) : ” و أمّا شهادة التّجارب بذلك ، فهي أكثر من أن تُذكر ، و ذلك في كلّ زمان ، و قد جرّبتُ أنا ذلك في نفسي و في غيري أمورًا عجيبةً ، ولا سيّما مدّة المقام بمكّةَ ، فإنّه كان يَعرِض لي آلامٌ مزعجة بحيث تكاد تقطع الحركة مني ، و ذلك في أثناء الطّواف و غيره ، فأبادر إلى قراءة الفاتحة و أمسح بها على محلّ الألم ، فكأنّه حصاة تسقط ! جرّبت ذلك مرارًا عديدةً ” .
___________________________
(1) : أخرجه البخاري ( 2276 ) و مسلم ( 2201 ) .
(2) : قال ابنُ حجرٍ في ” الفتح ” ( 10/210 ) : ” ما به قلبة : بفتح اللام بعدها موحّدة ، أي ما به ألم يقلّب لأجله على الفراش ، وقيل : أصله من القُلاب بضمّ القاف ، وهو داءٌ يأخذ البعير فيمسك على قلبه فيموت من يومه ” .
منقول من كتاب “من كل سورة فائدة”الشيخ عبد المالك رمضاني الجزائري